تفسير قوله تعالى ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون والقراءات فيها

التفسير الكبير ، الصفحة : 190 عدد الزيارات: 22270 طباعة المقال أرسل لصديق

( ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين ) قوله تعالى ( ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين ) 50 في الآية مسائل : المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى ذكر أنواعا كثيرة من كفرياتهم في هذه السورة ، وأجاب عنها بالوجوه الكثيرة : فأولها : قوله تعالى : ( وجعلوا له من عباده جزءا ) .
وثانيها : قوله تعالى : ( وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ) .
وثالثها : قوله ( وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ) [الزخرف : 20] .
ورابعها : قوله ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) [الزخرف : 31] .
وخامسها : هذه الآية التي نحن الآن في تفسيرها ، ولفظ الآية لا يدل إلا على أنه لما ضرب ابن مريم مثلا أخذ القوم يضجون ويرفعون أصواتهم ، فأما أن ذلك المثل كيف كان ، وفي أي شيء كان ، فاللفظ لا يدل عليه ، والمفسرون ذكروا فيه وجوها ، كلها محتملة : فالأول : أن الكفار لما سمعوا أن النصارى يعبدون عيسى ، قالوا : إذا عبدوا عيسى فآلهتنا خير من عيسى ، وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يعبدون الملائكة .
الثاني : روي أنه لما نزل قوله تعالى : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ) [الأنبياء : 98] قال عبد الله بن الزبعرى : هذا خاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : بل لجميع الأمم فقال : خصمتك ورب الكعبة ، ألست تزعم أن عيسى ابن مريم نبي وتثني عليه خيرا وعلى أمه ، وقد علمت أن النصارى يعبدونهما واليهود يعبدون عزيرا ، والملائكة يعبدون ، فإذا كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ، فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - وفرح القوم وضحكوا وضجوا ، فأنزل الله تعالى : ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ) [الأنبياء : 101] ونزلت هذه الآية أيضا ، والمعنى : ولما ضرب عبد الله بن الزبعرى عيسى ( ابن مريم مثلا ) وجادل رسول الله بعبادة النصارى إياه ( إذا قومك ) قريش ( منه ) أي من هذا المثل ( يصدون ) أي يرتفع لهم ضجيج وجلبة فرحا وجدلا وضحكا بسبب ما رأوا من إسكات رسول الله ، فإنه قد جرت العادة بأن أحد الخصمين إذا انقطع أظهر الخصم الثاني الفرح والضجيج ، ( وقالوا أآلهتنا خير أم هو ) يعنون أن آلهتنا عندك ليست خيرا من عيسى ، فإذا كان عيسى من حصب جهنم كان أمر آلهتنا أهون .
الوجه الثالث في التأويل : وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حكى أن النصارى عبدوا المسيح وجعلوه إلها لأنفسهم ، قال كفار مكة : إن محمدا يريد أن يجعل لنا إلها كما جعل النصارى المسيح إلها لأنفسهم ، ثم عند هذا قالوا ( أآلهتنا خير أم هو ) يعني أآلهتنا خير أم محمد ، وذكروا ذلك لأجل أنهم قالوا : إن محمدا يدعونا إلى عبادة نفسه ، وآباؤنا زعموا أنه يجب عبادة هذه الأصنام ، وإذا كان لا بد من أحد هذين الأمرين فعبادة هذه الأصنام أولى ، لأن آباءنا وأسلافنا كانوا متطابقين عليه ، وأما محمد فإنه متهم في أمرنا بعبادته ، فكان الاشتغال بعبادة الأصنام أولى ، ثم إنه تعالى بين أنا لم نقل إن الاشتغال بعبادة المسيح طريق حسن ، بل هو كلام باطل ، فإن عيسى ليس إلا عبدا أنعمنا عليه ، فإذا كان الأمر كذلك فقد زالت شبهتهم في قولهم : إن محمدا يريد أن يأمرنا بعبادة نفسه ، فهذه الوجوه الثلاثة مما يحتمل كل واحد منها لفظ الآية .
المسألة الثانية : قرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم : " يصدون " بضم الصاد ، وهو قراءة علي بن أبي طالب - عليه السلام - والباقون بكسر الصاد وهي قراءة ابن عباس ، واختلفوا فقال الكسائي : هما بمعنى ، نحو يعرشون ويعرشون ، ويعكفون ، ويعكفون ، ومنهم من فرق ، أما القراءة بالضم فمن الصدود ، أي من أجل هذا المثل يصدون عن الحق ويعرضون عنه ، وأما بالكسر فمعناه يضجون .
المسألة الثالثة : قرأ عاصم وحمزة والكسائي : " أآلهتنا " استفهاما بهمزتين ، الثانية مطولة ، والباقون استفهاما بهمزة ومدة .
ثم قال تعالى : ( ما ضربوه لك إلا جدلا ) أي ما ضربوا لك هذا المثل إلا لأجل الجدل والغلبة في القول ، لا لطلب الفرق بين الحق والباطل ( بل هم قوم خصمون ) مبالغون في الخصومة ، وذلك لأن قوله ( إنكم وما تعبدون من دون الله ) [الأنبياء : 98] لا يتناول الملائكة وعيسى ، وبيانه من وجوه : الأول : أن كلمة " ما " لا تتناول العقلاء البتة .
والثاني : أن كلمة " ما " ليست صريحة في الاستغراق بدليل أنه يصح إدخال لفظتي الكل والبعض عليه ، فيقال : إنكم وكل ما تعبدون من دون الله ، أو إنكم وبعض ما تعبدون من دون الله .
الثالث : أن قوله : إنكم وكل ما تعبدون من دون الله أو وبعض ما تعبدون - خطاب مشافهة ، فلعله ما كان فيهم أحد يعبد المسيح والملائكة .
الرابع : أن قوله ( إنكم وما تعبدون من دون الله ) هب أنه عام إلا أن النصوص الدالة على تعظيم الملائكة وعيسى أخص منه ، والخاص مقدم على العام .
المسألة الرابعة : القائلون بذم الجدل تمسكوا بهذه الآية إلا أنا قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : ( ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا ) أن الآيات الكثيرة دالة على أن الجدل موجب للمدح والثناء ، وطريق التوفيق أن تصرف تلك الآيات إلى الجدل الذي يفيد تقرير الحق ، وأن تصرف هذه الآية إلى الجدل الذي يوجب تقرير الباطل .
ثم قال تعالى : ( إن هو إلا عبد أنعمنا عليه ) يعني : ما عيسى إلا عبد كسائر العبيد ، أنعمنا عليه حيث جعلناه آية بأن خلقناه من غير أب كما خلقنا آدم ، وشرفناه بالنبوة وصيرناه عبرة عجيبة كالمثل السائر ( ولو نشاء ) ( لجعلنا منكم ) لولدنا منكم يا رجال ( ملائكة في الأرض يخلفون ) كما يخلفكم أولادكم ؛ كما ولدنا عيسى من أنثى من غير فحل ؛ لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة ، ولتعرفوا أن دخول التوليد والتولد في الملائكة أمر ممكن ، وذات الله متعالية عن ذلك ( وأنه ) أي عيسى ( لعلم للساعة ) شرط من أشراطها تعلم به ، فسمي الشرط الدال على الشيء علما لحصول العلم به ، وقرأ ابن عباس : " لعلم " وهو العلامة ، وقرئ : " للعلم " وقرأ أبي : " لذكر " ، وفي الحديث : أن عيسى ينزل على ثنية في الأرض المقدسة يقال لها أفيق ، وبيده حربة ، وبها يقتل الدجال ، فيأتي ببيت المقدس في صلاة الصبح والإمام يؤم بهم فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن به ( فلا تمترن بها ) من المرية وهو الشك ( واتبعون ) واتبعوا هداي وشرعي ( هذا صراط مستقيم ) أي هذا الذي أدعوكم إليه صراط مستقيم ( ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين ) قد بانت عداواته لكم لأجل أنه هو الذي أخرج أباكم من الجنة ونزع عنه لباس النور .