تفسير قوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ

فتاوى الشيخ ابن باز عدد الزيارات: 11986 طباعة المقال أرسل لصديق

أرجو شرح قوله تعالى: فأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُـعِدُوا فَفِي الْجَنَّـةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْـرَ مَجْـذُوذٍ، هل يفهم من هذا أن من دخل الجنـة يخـرج منها إذا شـاء الله؟ وهل نسخت هاتان الآيتـان بشيء من القـرآن إذ أنهما وردتا في سورة مكيـة؟

الآيتان ليستا منسوختين بل محكمتان، وقوله عز وجل: إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ اختلف أهل العلم في معنى ذلك مع إجماعهم على أن نعيم الجنة دائم أبدا لا ينقضي ولا يزول ولا يخرجون منها، ولهذا قال تعالى: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ لإزالة بعض ما قد يتوهم بعض الناس أن هناك خروجا، فهم خالدون فيها أبدا، ولهذا قال سبحانه: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ ، يعني آمنين من الموت وآمنين من الخروج، وآمنين من الأمراض، ولهذا قال عز وجل بعد ذلك: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ  فهم فيها دائمون ولا يخرجون ولا يموتون وقال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ  فأخبر سبحانه أن أهل الجنة في مقام أمين لا يعتريه خراب ولا زوال وأنهم آمنون أيضا لا خطر عليهم من موت ولا مرض ولا خروج ولا يموتون أبداً.

فقوله: إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ قال بعض أهل العلم: معناه: مدة مقامهم في القبور ليسوا في الجنة وإن كان المؤمن في روضة من رياض الجنة لكنها ليست هي الجنة ولكنه شيء منها، فإنه يفتح للمؤمن وهو في قبره باب إلى الجنة يأتيه من ريحها وطيبها ونعيمها وينقل بعد ذلك إلى الجنة فوق السماوات في أعلى شيء.

وقال بعضهم: إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ يعني مدة إقامتهم في موقف القيامة للحساب والجزاء، وذلك بعد خروجهم من القبور، فإنهم بعد ذلك ينقلون إلى الجنة، وقال بعضهم: مجموع الأمرين مدة بقائهم في القبور ومدة بقائهم في الموقف ومرورهم على الصراط... في كل هذه الأماكن ليسوا في الجنة لكنهم ينقلون منها إلى الجنة.

ومن هذا يعلم أن المقام مقام واضح ليس فيه شبهة ولا شك فأهل الجنة في الجنة أبد الآباد ولا موت ولا مرض ولا خروج ولا كدر ولا حزن ولا حيض ولا نفاس، بل في نعيم دائم وخير دائم. وهكذا أهل النار يخلدون فيها أبد الآباد ولا يخرجون منها كما قال عز وجل في حقهم: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ والآيات في هذا المعنى كثيرة. أما قوله عز وجل في حقهم: إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ فقيل: إن المراد بذلك مقامهم في القبور، وقيل مقامهم في الموقف، وهم بعد ذلك يساقون إلى النار ويخلدون فيها أبد الآباد، كما قال تعالى في حقهم في سورة البقرة: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ، وقال سبحانه في سورة المائدة: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ والله ولي التوفيق.